اصنع
ذكرياتك معنا – قراءة نفسية اجتماعية أسرية
بقلم: محمد كمال – باحث وأخصائي
علم نفس اجتماعي
كنت أجلس في مجلس ما، نتبادل الحديث عن مصطلح الاستقرار الأسري، وكيف يمكن أن يحدث ذلك في ظل ارتفاع ملحوظ في نسبة الطلاق في كثير من المجتمعات. فطلبت من أبو عبد الله أن يتحدث عن ذكرياته مع عائلته، وكان لديه أبناء، ومر على زواجه أكثر من 15 عام.
فجال ببصره بعيدا، وبدأ الحديث عن عائلته وهو مبتسما ومتذكرا موقفا من المواقف العائلية وقال: ذات مرة خرجنا في رحلة عائلية مدتها 4 أيام، وكنا جالسين ليلا مع بعضنا جلسة كانت مليئة بالدفء العائلي، وكانت لحظة تعجز الكلمات عن التعبير عنها، ومشاعر متبادلة بيننا لا يمكن لأي بليغ وصفها، فبدأنا نتحدث عن ذكرياتنا مع بعضنا البعض، فقال ابني ذو العشرة أعوام: "أتذكر يا أبي حينما خرجنا مع بعضنا وفعلنا كذا وكذا، وزرنا المكان الفلاني، ولعبنا معا"، وقالت ابنتي ذات الاثنا عشر ربيعا: "أتذكر يا أبي حينما كنت تلعب معنا أنت وأمي وكنت إذا خسرت أبكي، وأنت تحتضني أنت وأمي وتشجعاني لأن أحاول مرة أخرى؟" ومن هنا لمعت عينا زوجتي وقالت: "أتذكر يا أبا عبد الله حينما كنا نجلس سويا أمام البحر ونلعب معا لعبة الكلمات التي تنتهي بحرف والآخر يبدا بالحرف المنتهي؟"وأكمل أبو عبد الله
قائلا: "هذه الليلة حينما تحدثنا عن ذكرياتنا معا، كانت ليلة استثنائية،
استرجعنا مشاعر جميلة وظللنا نتسامر ونضحك حول المواقف التي عشناها مع بعضنا حتى
خلدنا إلى النوم. فالحمد لله على أننا بنينا مع بعضنا جميعا ذكريات جميلة وكل منا
يذكر الآخر بالكلام الطيب بسبب هذه المواقف العائلية الجميلة."
سألت أبو عبد الله:
"كم من الوقت تقضي مع زوجتك وأبنائك يا أبو عبد الله؟" فأجاب إجابة أكثر
من رائعة: "في الحقيقة لا أقيس المدة التي أقضيها مع زوجتي وأبنائي بالدقائق
أو الساعات؛ وإنما بالمواقف الجميلة التي نقضيها مع بعضنا، فمثلا: نلعب مع بعضنا
لعبة مشتركة، أو نشاهد مع بعضنا التلفاز، أو نستمع لمشكلات بعضنا ونحاول حلها بشكل
سليم". ثم أكمل أبو عبد الله قائلا: "أهم شيء في الوقت الذي نقضيه هو
أننا نستمتع مع بعضنا في مواقف لا تنسى، فأنا أريد أن أبني ذكريات جميلة مع جميل
أفراد عائلتي عندما أكبر".
كنا جميعا نستمع لأبو
عبد الله ووجوهنا متهللة والابتسامة الانبهار على وجوهنا مع مشاعر الاعتزاز والفخر
بأن لنا صديق مثل أبو عبد الله، وعلى وجه الخصوص أنا "كاتب المقال" لأن
أبو عبد الله يفعل أشياء ظللنا أشهر طويلة ندرسها بشكل علمي لنثبتها، منها هو أن
قضاء الآباء مع أبنائهم وقتا ممتعا يزيد من الصحة النفسية للآباء والأبناء (Abdelrahman
et al., 2022). هو لم
يقرأ ذلك، ولكن مارس هذا الأمر بشكل رائع مع عائلته.
عندما انتهى أبو عبد
الله من حديثه، قلت للحضور في مجلسنا، أتدرون شيئا؟ قالوا: ماذا؟ قلت لهم إن قضاء
أبو عبد الله وقتا إيجابيا مع زوجته وأبنائه، وبناء لحظات جميلة معهم، هو أثمن شيء
فعله لنفسه ولزوجته وأولاده؛ لأن ما فعله أبو عبد الله هو مثل الترياق الذي حمى
عائلته من التفكك في ظل عصر تحكمه السرعة التي تحرم الكل من الاستمتاع باللحظة.
والاستمتاع باللحظة هو ما تناوله مصطلح في علم النفس اسمه "اليقظة
الذهنية" والذي يشير إلى الاستمتاع باللحظة الحالية (Black, 2011; Anālayo,
2019). فلتستمتع
كزوج ولتستمتعي كزوجة بكل موقف جميل ولحظة ممتعة مع أفراد العائلة لأن هذا له
تأثير إيجابي كبير في النفس ويساعد في تقوية العلاقة الروحية وتحقيق التماسك بين
الجميع. وأيضا ينبغي أن نعلم شيئا هاما وهو أننا نحن من نصنع هذه المواقف
الإيجابية.
إن طبيعة عملي كاختصاصي
علم نفس اجتماعي، وتعاملي مع مراجعين لديهم مشكلات أسرية لها جذور نفسية، جعلتني
أبحث بقوة عن الأسباب التي تساهم في حدوث الطلاق مع محاولة وضع حلولا عملية لها
تحد من هذا الأمر الذي ربما يصبح ظاهرة مجتمعية خطيرة تهدد نسيج المجتمع. وإن السؤال
العفوي الذي سألته لأبو عبد الله في مجلسنا وضع أمامنا أحد الحلول التي بالفعل كما
سبق وأن ذكرت تعد بمثابة ترياق قوي يحمي الأسرة من التفكك ويحصنها من حدوث الطلاق،
وهذا الحل هو التركيز على بناء ذكريات جميلة مع الزوجة ومع الأبناء من خلال
مواقف حياتية مليئة بالأنشطة التفاعلية. لقد أكدت العديد من الدراسات أن الذكريات
الجميلة من خلال الموافق التي يصنعها الزوجان تجعل علاقتهما أكثر صحية وأكثر
تماسكا (Mallory et al., 2018; Evans, 2022)، وأيضا توصلت دراسة Yin وآخرون (2023) إلى أن الذكريات الجميلة تجعل
الآباء قريبين جدا من أبنائهم. ولهذا أقترح بعض الأنشطة البسيطة التي يمكن للزوج
القيام بها مع أسرته، وأيضا للزوجة دور كبير في مساعدته على القيام بذلك، وهي:
1- الحرص على الاحتفال
بالمناسبات مع جميع أفراد العائلة (مثل الأعياد بكافة أنواعها)
2- تخصيص وقتا من 20 – 30
دقيقة يوميا لبدء حديث جماعي عن أمر يهم أفراد العائلة، أو السؤال عن أحوال كل فرد
من أفراد العائلة (والسؤال يكون بغرض الفهم والمعرفة لا بطريقة كأنها تحقيق)
3- اللعب مع أفراد العائلة
(خاصة الزوجة) في لعبة مشتركة ولو مرة كل أسبوع
4- تخصيص وقتا للخروج مع
الزوجة فقط في مكان يتم الاتفاق عليه والحديث عن المشاعر الإيجابية لكل طرف تجاه
الآخر
5- يمدح الزوج زوجته أمام
أبنائه ويظهر أمامهم حبه لها، وهي تفعل نفس الشيء ولو مرتين في الأسبوع
هذه بعض الأنشطة البسيطة
التي لو حاول كل زوج القيام بها سوف يحقق الفوائد التالية:
1- تخفيف مشاعر القلق
والتوتر الناتج عن ضغط العمل
2- تنمية مشاعر إيجابية بين
الزوج وبين جميع أفراد العائلة
3- رفع مستوى الصحة النفسية
للزوج وبين جميع أفراد العائلة
4- تقليل نسبة الإصابة
بالأمراض المزمنة الناتجة عن الضغوط
5- تقليل نسبة المشكلات
الأسرية وزيادة التماسك والاندماج الروحي بين أفراد العائلة
إن بناء الذكريات من
خلال المواقف الجميلة التي يعيشها كل من الزوج والزوجة والأبناء مع بعضهم البعض
يساهم بشكل كبير في تحقيق التماسك الأسري والاتزان النفسي وتحصين الزوج والزوجة من
حدوث الفرقة والطلاق. فيحرص كل من الزوج والزوجة على بناء هذه الذكرى من أجل أن يعيشوا
حياة مستقرة مليئة بالحب والود.
المراجع:
Abdelrahman,
M., Al-Adwan, D., & Hasan, Y. (2022). Impact of social distancing on the
mental health of parents and children in Qatar. International Journal
of Mental Health and Addiction, 20(5), 2894-2905.
Anālayo, B.
(2019). Adding historical depth to definitions of mindfulness. Current
opinion in psychology, 28, 11-14.
Black, D. S.
(2011). A brief definition of mindfulness. Behavioral Neuroscience, 7(2),
109.
Evans, N. D.,
Juhl, J., Hepper, E. G., Wildschut, T., Sedikides, C., & Fetterman, A. K.
(2022). Romantic nostalgia as a resource for healthy relationships. Journal
of Social and Personal Relationships, 39(7), 2181-2206.
Mallory, A.
B., Spencer, C. M., Kimmes, J. G., & Pollitt, A. M. (2018). Remembering the
good times: The influence of relationship nostalgia on relationship
satisfaction across time. Journal of marital and family therapy, 44(4),
561-574.
Yin, Y.,
Jiang, T., Thomaes, S., Wildschut, T., & Sedikides, C. (2023). Nostalgia
Promotes Parents’ Tradition Transfer to Children by Strengthening Parent-Child
Relationship Closeness. Personality and Social Psychology Bulletin,
01461672231187337.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق