![]() |
نفسية الوالدين وأجيال المستقبل |
بقلم: محمد كمال – باحث واختصاصي علم نفس اجتماعي
تتكون الأسرة من أب وأم وطفل واحد على الأقل. وتتميز العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة بالتغير المستمر، وهذا التغير في العلاقات يتراوح ما بين علاقة قوية متماسكة إلى علاقة فاترة ضعيفة قد تنتهي بانفصال الزوجين مع الدخول في صراعات يدفع ثمنها الأبناء. ولا شك أن توتر العلاقات بين أفراد الأسرة قد يكون سببه الأساسي هو مشكلة في البناء النفسي لأحد الأفراد أو بعضهم، وهذه المشكلة تظهر على السطح من خلال القيام بسلوكيات أغلبها عدائية تؤدي في النهاية إلى ضعف الترابط الأسري وتحديدا ضعف العلاقة بين الزوج والزوجة مما ينعكس ذلك على الأبناء.
هل للجانب النفسي تأثير على جودة العلاقة الزوجية والأسرية؟ أم هناك جوانب أخرى؟
إن سلامة البناء النفسي هو
العامل الرئيسي الذي ينبئ بجودة العلاقات بين أفراد الأسرة. ويظهر ذلك في نبرة
الكلام، وأسلوب التحدث، وطريقة التعامل. فالزوج عندما يكون متزنا نفسيا تجده
يتعامل بأسلوب جذاب مع زوجته وأبنائه، ويكون السند لهم من خلال تقديم الدعم الدائم
في حال وقوع أحد الأفراد في أزمة حتى ولو كانت بسيطة، وهذا بالطبع يقوي ويعزز
العلاقات بين أفراد الأسرة. أما في حال أن الزوج أو الزوجة لديها مشاكل نفسية مثل:
سرعة الانفعال، الاكتئاب، القلق الشديد فإن ذلك ينعكس على تصرفاته أو تصرفاتها
تجاه أفراد الأسرة؛ فيظل الجميع في توتر وألم نفسي يستمر حتى ينتقل ذلك إلى بعض أو
جميع أفراد الأسرة. وللأسف فإن هذا الاعتلال النفسي يخلق أسرة يعاني أفرادها من
كثير من الاضطرابات النفسية والتي بلا شك تؤثر على أدائهم سواء على الصعيد الشخصي أو
المهني وبمرور الزمن يتأثر المجتمع بهذا الاعتلال الأسري.
هل المشكلات المجتمعية لها جذور نفسية؟
إن المشكلات الحالية
التي تعاني منها المجتمعات ليست وليدة اللحظة، بل إن أسبابها بدأت منذ فترة زمنية
طويلة قد تكون 30 عام، ولكن لم ينتبه لها أحد أو تم تجاهلها والهروب منها حتى
أصبحت مشكلة كبيرة تؤثر على استقرار المجتمع إن لم يتم معالجتها بالشكل المطلوب.
فعلى سبيل المثال: تعاني بعض المجتمعات العربية من ارتفاع نسب الطلاق، وهذا
الارتفاع أصبح ظاهرة تهدد أمن المجتمع واستقراره. وإذا نظرنا إلى هذه المشكلة نجد
أنها بدأت بالفعل منذ زمن طويل (على الأقل منذ 15 عام)، ولذلك عندما قمت بالبحث
المبدئي عن هذه المشكلة وجدت أن منشؤها نفسي في الأساس، ولكن تم تجاهل هذا الأمر
إلى أن تفاقم وظهر في شكل مشكلة اجتماعية لها تأثيرات مخيفة على الفرد والمجتمع إن
لم يتم احتواؤها ووضع حلول لها.
ما علاقة الطلاق بالمشكلات النفسية التي يعاني منها أحد الزوجين؟
وفقا لدراسة Temane وآخرون (2019) فإن العلاقة بين الزوجين
تتأثر بالسلب إذا كان أحد الطرفين مصابا باضطراب نفسي. فعندما يصاب أحد الزوجين
باضطراب نفسي معين، مثل: اضطراب الشخصية الحدية (من أهم مظاهره تقلب المزاج وعدم
التحكم في الانفعالات) أو ثنائي القطب (من أهم مظاهره التطرف في المشاعر والقيام
بسلوكيات متهورة وغير محسوبة العواقب) أو الاكتئاب (العزلة وعدم الاهتمام بالنظافة
الشخصية) وغيره من الاضطرابات النفسية، تؤثر هذه الاضطرابات سلبا على أداء شريك
الحياة (الزوج أو الزوجة) لأن العلاقة تكون في غالبها متوترة مادام الشخص المضطرب
لم يعترف بمرضه ولم يحاول اللجوء لمختص من أجل العلاج. والأمر يزداد سوءا عندما لا
يعرف كلا الطرفين أن هناك مشكلة نفسية يعاني منها أحدهما؛ حيث إن كل طرف لا يفهم
الآخر ولا يعرف أن هناك مشكلة نفسية يجب معالجتها، وبالتالي تصل العلاقة بينهما
إلى طريق مسدود، وهنا يكون القرار: إما تحمل أحد الطرفين للتعب الناشئ عن
الاستمرار في الحياة الزوجية (وبالتالي يتدهور البناء النفسي له) أو اتخاذ قرار
الطلاق.
قصة واقعية
هناك قصة عايشتها؛ حيث
إن الزوج كان مصابا بالنرجسية الشديدة، وكان يتعامل مع زوجته بتعالِ شديد، لدرجة
أنه دمر ثقتها بنفسها وتقديرها لذاتها، ووصل الأمر بها أن حاولت التخلص من حياتها
لأنها ترى نفسها عديمة القيمة. وفي الواقع إن ما حدث هو أن إصابة الزوج باضطراب
النرجسية (من أعراضه الغرور الشديد واستغلال الآخرين لمصلحته وافتقاره للتعاطف مع
الآخر) أثر على الزوجة وأصابها باضطراب الاكتئاب الشديد والذي كاد أن يودي
بحياتها. فهي لديها أطفال وتريد أن تتحمل هذا الزوج من أجلهم إلا أنها كادت أن
تفقد كل شيء. عندما تم شرح الأمر للزوجة بدأت في استيعاب المشكلة وأن زوجها يحتاج
لمساعدة (وهي أيضا تحتاج لمساعدة لتتخلص من الاكتئاب)، وبعد تطبيق برنامج تدخل تم
استشفاء الزوجة وللأسف الزوج لم يعترف بأنه بحاجة إلى مساعدة، ولكن في النهاية
استطعنا أن نطور في الزوجة بعض المهارات التي تساعدها في التكيف مع الوضع مع تقوية
البناء النفسي لديها. وبالفعل استقر الوضع نوعا ما.
إن هذه الزوجة تحملت
واستطاعت التعايش مع الزوج المريض باضطراب النرجسية، ولكن هناك البعض لا يستطيع
التعايش مع هذه الشخصية، وتطلب الطلاق. وبالفعل يحدث الطلاق بسبب زوج لا يعترف
بمرضه.
هل المرض النفسي لأحد الزوجين يؤثر على الطرف الآخر؟
للأسف الشديد نعم. فلقد بينت
دراسة أجراها Merrill عام 2022
على أكثر من 21 ألف شخص متزوج أن معدلات الإصابة بالتوتر (19.2%) والقلق (26.4%)
والاكتئاب (23.6%) لدى الزوجات تكون أكبر عندما يكون الزوج مصابا بالفصام. كما أن
فرصة إصابة الزوجة بالتوتر تكون أكبر بـ 5.5 مرة إذا كان الزوج مصابا بالفصام وذلك
مقارنة بالزوج السليم.
أيضا عندما تكون الزوجة
مصابة بالنرجسية فهذا يؤثر على مدى قدرة الزوج في التحكم في انفعالاته وهذا ما
أكدته دراسة Lamkin وآخرون
(2017) حيث إن يتميز أسلوب الزوجة النرجسية بالعدائية تجاه الزوج مما يؤثر في قدرة
الزوج على التحكم في انفعالات مما يؤثر بالسلب على العلاقة الزوجية التي قد تنتهي
بالطلاق.
هل يتأثر الأبناء بإصابة أحد الآباء بالاضطرابات النفسية؟
للأسف الشديد: نعم.
فلقد أشار Leijdesdorff وآخرون (2017) إلى أنه على مستوى العالم، يعيش
15-23% من الأطفال مع أحد الوالدين الذي يعاني من مرض عقلي، وأن هؤلاء الأطفال
لديهم فرصة تصل إلى 50٪ للإصابة بمرض عقلي. إن إصابة أحد الآباء باضطراب نفسي يؤثر على كل أفراد
الأسرة، وخاصة الأبناء الذين في مراحل العمر الأولى حيث تتشكل الشخصية ويتكون
البناء النفسي الذي يساعد الفرد على التعامل مع تحديات الحياة بكفاءة وفاعلية.
وهذا ما أثبتته دراسة Radley وآخرون
(2023) حيث توصلت إلى أنه إذا كان أحد الوالدين مصابا باضطراب نفسي (الذهان مثلا)
فإن ذلك يؤثر سلبا على كل أفراد الأسرة ويضعهم تحت ضغط نفسي شديد قد يؤدي إلى
إصابة أحد الأفراد باضطراب نفسي.
وفي دراسة أمريكية على 97,728 طفل أجراها Wolicki وآخرون (2021) كان لدى 7.2% من الأطفال أحد
الأبوين مصابا باضطراب نفسي، وأن هناك
ارتباط بين الآباء الذين لديهم اضطرابات نفسية وبين الاعتلال الجسدي والنفسي
للأبناء؛ حيث إن الآباء (الأب أو الأم) الذين يعانون من اضطراب نفسي ربما بسبب
سلوكياتهم المتوترة مع أبنائهم يؤثرون سلبا على الصحة النفسية للأبناء، وكذلك بسبب
نفسية الوالدان المضطربة (أحدهما أو كلاهما) قد يهملان الطفل من الناحية الغذائية،
وضعف الاهتمام بالصحة العامة له مما يؤثر ذلك على بنيته الجسدية فيصاب بالاعتلال
الجسدي (مثل: سوء التغذية، أو البدانة المفرطة). وفي نهاية هذه الدراسة أوصى
الباحثون بضرورة تقديم الرعاية النفسية للوالدين من أجل المحافظة على الجيل الناشئ
ومن ثم المحافظة على أمن واستقرار المجتمع.
إن أبناء
اليوم هم من يحملون أعباء وهموم وتحديات المجتمع على كاهلهم في المستقبل، وإذا
أردنا أن ننهض ونبني مجتمعا قويا متماسكا قادرا على مواكبة التطور والتقدم على
المستوى المحلي والعالمي؛ فعلينا أن نبدأ من الآن من خلال التالي:
· الاهتمام بالبنية
النفسية للفرد من خلال تسهيل تقديم خدمات الرعاية النفسية والمحافظة على خصوصية
الفرد.
· الاهتمام بأفراد الأسرة
دون استثناء من خلال تقديم خدمات الإرشاد النفسي والزواجي والأسري والتربوي، حتى
لو لم تظهر بوادر مشكلة نفسية أو أسرية؛ لأن ذلك يعمل كبرنامج وقائي لأفراد الأسرة
من الوقوع ضحية للاضطرابات النفسية والخلافات الأسرية التي تدمرها.
· توعية الأزواج بأهمية
الحفاظ على الاستقرار الأسري، والحفاظ على صحة نفسية سليمة من خلال البرامج
الجماهيرية التثقيفية واستثمار وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لتحقيق ذلك.
· وعلى الجميع (الأب
والأم، أو الزوج والزوجة) الحديث مع الذات بصراحة ووضوح من حيث مستوى الصحة
النفسية لديهم؛ فإذا كان أحد الأطراف يعاني من مشكلة نفسية معينة، عليه ألا يتردد
في استشارة المختص وأن يسعى جاهدا لعلاج هذا الاضطراب حتى لا يؤثر ذلك على نفسه
بشكل خاص وعلى حياته الأسرية بشكل عام.
· وعلى كل مقدمي الرعاية
الصحية أن يعملوا جاهدا على إطلاق الحملات التوعوية التثقيفية بأهمية الحفاظ على
الصحة النفسية، والبحث عن الطرق السليمة من أجل تعزيزها.
· أقترح
وأتمنى أن يحدث ذلك يوما ما، أن يكون هناك فحصا نفسيا قبل الزواج من أجل الوقوف على مستوى الصحة
النفسية للفرد من أجل حمايته وحماية الأسرة المستقبلية.
· محاولة القضاء على
الوصمة، وهي خجل الناس من الاعتراف باعتلال الصحة النفسية. وتشجيع المصابين
باللجوء للاختصاصي النفسي حتى يساعدهم في التغلب على الاضطراب النفسي.
إذا أردنا أن نبني
مجتمعا صحيا وقويا وسليما، يجب علينا بذل الجهد مع أفراده من أجل الحفاظ على صحة
نفسية سليمة تمكنهم من بناء الوطن والمساهمة في رفعته وازدهاره.
المصادر:
Temane, A., Poggenpoel, M., Myburgh, C., &
Mokoena, A. G. (2019). Lived experiences of couples in a relationship where one
partner is diagnosed with a mental illness. Curationis, 42(1),
1-7.
Merrill, R. M. (2022). Within-and cross-mental
health disorder correlations in husband-and-wife pairs. BMC psychiatry, 22(1),
765.
Lamkin, J., Lavner, J. A., & Shaffer, A.
(2017). Narcissism and observed communication in couples. Personality
and Individual Differences, 105, 224-228.
Radley, J., Barlow, J., & Johns, L. C.
(2023). A family perspective on parental psychosis: An interpretative
phenomenological analysis study. Psychology and Psychotherapy: Theory,
Research and Practice, 96(2), 347-363.
Wolicki, S. B., Bitsko, R. H., Cree, R. A., Danielson,
M. L., Ko, J. Y., Warner, L., & Robinson, L. R. (2021). Mental health of
parents and primary caregivers by sex and associated child health
indicators. Adversity and resilience science, 2,
125-139.
Leijdesdorff, S., van Doesum, K., Popma, A.,
Klaassen, R., & van Amelsvoort, T. (2017). Prevalence of psychopathology in
children of parents with mental illness and/or addiction: an up to date
narrative review. Current opinion in psychiatry, 30(4),
312-317.
معلومات قيمة ومهمة واتفق مع الفحص النفسي قبل الزواج
ردحذفالموضوع مميز وغني بالمعلومات العلمية الموثقة
ردحذفكلام صحيح وواقعي ولابد من نشر الوعي في مثل هذه الموضوعات للمحافظة على تماسك المجتمع
ردحذف